
التخاطر (مريم)..
في قرية نائية، عاشت فتاة تدعى “مريم” اكتسبت منذ صغرها قدرة غير مألوفة على التخاطر. كانت تستطيع التواصل مع أشخاص من بعيد، تصلهم أفكارها وصورها الذهنية دون الحاجة للكلمات. تلك القدرة جعلتها تشعر بوحدة غريبة، إذ كانت تتلقى أفكارًا ورسائل من أشخاص لا تعرفهم، وأحيانًا من أماكن بعيدة لم تطأها قدماها قط.
في إحدى الليالي، وبينما كانت مريم مستغرقة في النوم، تسلل إلى ذهنها مشهد مروّع: قبو مظلم مليء بالأشخاص المحتجزين، أصواتهم تتردد في عقلها، كأنهم يستنجدون بها. لم يكن هذا مجرد حلم؛ بل كان نداءً حقيقيًا من شخص استطاع الوصول إليها بتخاطره. لم تفهم تمامًا، لكنها شعرت بنداء ملحّ يدعوها للبحث عن هذا المكان.
قررت مريم أن تتبع هذه الرسائل لتكتشف سر هذا النداء. قادها حدسها نحو أطراف القرية، حيث منزل قديم مهجور. وما إن اقتربت، حتى بدأت تشعر بتواصل أقوى وأكثر وضوحًا مع ذلك الشخص، كأنه يرشِدها إلى ما يجب عليها فعله. فتحت الباب بصعوبة، ليظهر أمامها مدخل يقود إلى قبو عميق. ترددت للحظة، لكن النداء كان قويًا، لدرجة أنها شعرت برعشة تخترق جسدها.
في القبو، وجدت نفسها محاطة بظلام دامس، لكن الأصوات التخاطرية كانت تتردد بوضوح في عقلها، وأصبح بإمكانها رؤية صور لأشخاص كانوا محتجزين في هذا المكان قبل سنوات طويلة، كأن ذاكرتهم تعيش في جدران القبو نفسه. فجأة، شعرت بوجود طيفٍ خلفها، شخص ما كان يراقبها، لكنها لم تتمكن من رؤيته. الصوت في ذهنها أصبح أكثر صخبًا، وكأن الأرواح تريد أن تحكي قصتها، تروي لها أحداثًا مرعبة حصلت في هذا المكان.
بدأت الصور تتدفق في ذهنها كأنها تعيشها، مشاهد لمجموعة من الأشخاص يمارسون طقوسًا غريبة، وأصوات لأرواح معذبة تطلب الخلاص. لم تستطع تحمل الصراخ داخل عقلها، فبدأت تحاول العودة للخلف، ولكن شيئًا ما كان يمنعها من الهروب.
كانت مريم تشعر بضغط ثقيل كأن الأبواب تُغلق خلفها واحدة تلو الأخرى، ولم يعد أمامها سبيل للهرب. الأصوات في عقلها تتزايد، كأن كل روح عذّبت في هذا المكان تروي قصتها في وقتٍ واحد، تصرخ وتستنجد بها لتخرجها من هذا السجن الأبدي.
بينما كانت مريم تحاول السيطرة على تلك الهواجس، بدأت ترى خيالات تظهر في أركان القبو. خيالات لأشخاص يرتدون ملابس ممزقة ووجوههم شاحبة، تحمل آثار عذاب طويل. أحدهم اقترب منها، رجل بوجه متجعد وعينين فارغتين، همس لها بصوت هادئ لكنه مخيف: “لقد أخذوا أرواحنا هنا… وجعلونا حراسًا لهذا المكان…”. ثم أشار إلى بقعة في زاوية القبو، حيث اكتشفت بابًا سريًا صغيرًا.
دفعها فضولها للاقتراب من الباب، ورغم خوفها، شعرت بأن عليها فتحه. كان الباب يؤدي إلى ممر ضيق وطويل، ملطخ بالجدران المتشققة والكتابات القديمة التي تبدو كأنها طلاسم مجهولة. وبينما كانت تمشي بحذر داخل الممر، بدأت تشعر أن شيئًا ثقيلًا يسير خلفها، لكنها لم تجرؤ على النظر.
مع كل خطوة، كانت صور أكثر وضوحًا تتدفق إلى عقلها، كأن المكان نفسه يتخاطر معها. رأت مشاهد لأشخاص يتم اقتيادهم إلى هذا الممر، أصواتهم مختنقة بالصراخ، وعيونهم مليئة باليأس والخوف. لم تستطع تحمل تلك الصور أكثر، وبدأت تشعر بالدوار، لكن شيئًا ما دفعها للاستمرار.
وصلت أخيرًا إلى غرفة دائرية في نهاية الممر، حيث وُضعت مرآة ضخمة في منتصف الغرفة. كانت المرآة محاطة بأحجار قديمة منقوشة، وأمامها شموع قديمة ما زالت تضيء وكأنها مشتعلة منذ سنوات. بينما كانت تقترب، رأت وجوهًا تظهر في المرآة؛ وجوه مشوهة، تصرخ وتتحرك خلف سطح المرآة الزجاجي، كأنها أرواح محبوسة داخلها.
وبينما كانت تنظر بذهول، ظهر
وجه آخر في المرآة… كان وجهها! لكنها لم تكن هي كما تعرف نفسها؛ عيناها كانتا سوداوان، ووجهها شاحب، وابتسامة غريبة تملأه. حاولت الابتعاد، لكن المرآة جذبتها بقوة غامضة، وأصبحت لا ترى شيئًا سوى ذلك الوجه الغريب. فجأة، بدأت تشعر كأنها تُسحب داخل المرآة، وسط صراخ الأرواح المحبوسة بداخلها.
فجأة، سقطت مريم على الأرض أمام المرآة، لكن كل شيء من حولها كان مختلفًا. بدلاً من الغرفة القديمة، وجدت نفسها في عالم آخر، مظلم ومليء بالأصوات الباكية وأرواح تائهة. أدركت أنها دخلت إلى العالم الآخر عبر تلك المرآة.
وقفت مريم في ذلك العالم المظلم، تشعر بالبرودة تسري في جسدها وكأن حياتها تنسحب منها ببطء. كان المكان غريبًا؛ أرضه جافة ومتشققة، وسماءه لا لون لها، مليئة بضباب كثيف يتحرك كأن هناك أرواحًا تائهة تسبح فيه. كل شيء كان يبدو خاليًا من الحياة، إلا تلك الأصوات الباكية التي تتردد حولها، تتنقل بين الظلال كأنها تعيد قصص معاناتها بلا نهاية.
حاولت أن تهدئ نفسها، وتوجهت نحو مصدر الأصوات، تسير بتردد، تخشى أن يكون هناك شيء يترصدها من بين الظلال. فجأة، شعرت بيد باردة تُمسك بكتفها. استدارت بسرعة، لترى امرأة شاحبة، بعيون مفرغة وبشرة رمادية، ترتدي ثيابًا ممزقة كأنها من زمن بعيد. همست لها المرأة بصوت منخفض: “أنتِ أيضًا؟ هل سُجنتِ هنا مثلنا؟”
حاولت مريم الحديث معها، لكنها لم تستطع نطق الكلمات، كأن صوتها قد اختفى في هذا العالم. ومع ذلك، بدا أن المرأة تفهمها، وقالت: “كل من يدخل هذا العالم لا يعود أبدًا، نحن ضحايا قديمة، محبوسون بين العوالم.” ثم أشارت إلى مكان مظلم في الأفق وقالت: “لكن هناك طريقة واحدة للخروج… الطريقة التي دخلنا منها، عبر الحارس.”
أحست مريم بارتعاش في جسدها عندما سمعت عن “الحارس”، فقد سمعت عنه من الأرواح وهي في القبو. اقتربت منها المرأة وهمست مجددًا: “الحارس هو من يحرس هذه الأرواح، يمنعها من المغادرة… لكن بعضنا حاول مواجهته. البعض… لم يعد أبدًا.”
في تلك اللحظة، شعرت مريم بطاقة قوية تجذبها إلى الخلف، وكأن الحارس قد شعر بوجودها. نظرت حولها، لترى ظلًا ضخمًا يقترب منها، كأن الظلام يتجسد في هيئة مخلوق غير مرئي. كان الحارس يقترب ببطء، بعيون حمراء تتوهج من بين الضباب، وقوة غامضة تكاد تسحقها تحت وطأة حضوره.
ركضت مريم بسرعة، تدفع قدميها بكل قوتها نحو المرآة التي جاءت منها، لكن الطريق بدا أطول مما كان عليه. كلما اقتربت، كان الحارس يتبعها، وتزداد الأرض تشققًا، كأنها تريد أن تبتلعها. الأصوات من حولها بدأت تصرخ بشكل أعلى، كأن الأرواح التي سُجنت هنا تريد أن تساعدها في الخروج.
وصلت أخيرًا إلى المرآة، لكن سطحها كان قد تغيّر؛ لم يعد زجاجًا شفافًا، بل تحول إلى سطح صلب غامق، لا يعكس أي شيء. صرخت بكل طاقتها، راجية أن تستجيب لها الأرواح، وشعرت فجأة بأن يدًا باردة تمسك بيدها، تدفعها باتجاه المرآة بقوة.
بدأت المرآة تتشقق، وتظهر من خلالها بقع من النور، كأنها نافذة صغيرة مفتوحة على عالمها. اندفعت بكل قوتها، واستطاعت الخروج في اللحظة التي كان الحارس فيها على وشك الإمساك بها.
عادت مريم إلى القبو، تتنفس بصعوبة، جسدها يرتجف وعقلها يملؤه الرعب مما رأته. وبينما كانت تنظر حولها، اكتشفت أن المرآة قد اختفت تمامًا. لكنها كانت تعلم أن الأرواح في ذلك العالم المظلم ما زالت تراقبها، تنتظر اللحظة التي تعود فيها…
بعد خروجها من القبو، لم تستطع مريم نسيان ما حدث. كانت تشعر أن العالم الآخر قد ترك بصمة غامضة في روحها، وكأنها ما زالت مرتبطة به بطريقة أو بأخرى. ومع مرور الأيام، بدأت مريم تلاحظ أمورًا غريبة؛ كانت ترى خيالات في المرآة كلما نظرت إليها، خيالات لأشخاص يحدقون فيها بعيون مليئة باليأس، كأنهم يطلبون منها المساعدة.
وفي كل ليلة، كانت تسمع همسات تتردد في عقلها، نداءات من ذلك العالم، كأن الأرواح العالقة ما زالت تحاول الوصول إليها، تستنجد بها للخلاص. حاولت أن تتجاهل تلك الأصوات، لكنها ازدادت حدّة، وكأنهم يقتربون منها أكثر فأكثر، لا يتركون لها مجالاً للراحة.
ذات ليلة، بينما كانت تحاول النوم، شعرت بشيء غريب في الغرفة، برودة غير طبيعية. فتحت عينيها لترى وجه الحارس يظهر أمامها، جسده شبه شفاف، لكنه يحمل ذات العيون الحمراء المتوهجة التي رأتهم في العالم الآخر. كان يحدق فيها بتركيز، وبصوت عميق ومرعب همس قائلاً: “لقد خرقتِ التوازن. بعودتك، فتحتِ بابًا لا يمكن إغلاقه.”