منوعات

قصة بقلم Muhammed Sayed

 

 

غرفة التحقيق كانت كتمة، جدران رمادية باهتة متاكلة من الزمن، والهواء فيها بارد ، لمبة سقف ضعيفة بتنور المكان بضوء أصفر شاحب، متأرجحة بخفة كأنها بتئن من الجو الكئيب. الطربيزة الخشبية اللي في النص كانت مليانة خدوش وحروق سجاير قديمة..

 

(ليلي) قاعدة على الكرسي، جسمها مائل لقدام، ووشها شاحب كأن الدم فرّ منه تمامًا. عيونها حمراء ومنتفخة من كتر العياط، وإيديها متشابكة في بعض بقوة، بتحاول تسيطر على رعشتها. كل شوية تبلع ريقها وتحرك بؤها كأنها هتتكلم، بس مفيش صوت خارج.

 

قصادها على الناحية التانية كان المحقق (عاصم)، راكن ضهره على الكرسي، عيونه مسلطة عليها كأنه بيحاول يخترق عقلها. في إيده مذكرة سودة باينة عليها القِدم، بيقلب صفحاتها بهدوء، وعلى الطربيزة قدامه  ملف تدويني مكتوب عليه: “وفاة سامر – تفاصيل غير مفسرة”.

 

جو الغرفة كان ثقيل، مفيش غير صوت عقارب الساعة اللي على الحيطة، ماشية ببطء كأنها بتعد اللحظات اللي باقيه قبل ما الحقيقة تطلع للنور..

 

المحقق (عاصم) سحب نفس عميق من سجارته، حط المذكرة على الطربيزة، وقعد يبص ليلي بتركيز، كأن عيونه بتحلل كل حركة صغيرة بتعملها. قرب بجسمه شوية لقدام وسألها بصوت هادي لكن نبرته كانت تقيلة:

 

“خلينا نبدأ من الأول يا مدام ليلي… عايزك تحكيلي بالظبط إيه اللي حصل في الليلة اللي مات فيها دكتور سامر.”

 

ليلي بلعت ريقها بصعوبة، عيونها هربت من عيونه، وفضلت تبص لأي حاجة غيره.. للحائط، للطربيزة، اتنفست بعمق، وحاولت تجمع كلامها:

 

“أنا… أنا مكنتش معاه وقتها.. سامر بقاله فترة مش طبيعي، كان بيقضي وقت طويل في عيادته، وساعات كان بيرجع البيت وهو في حالة مش مفهومة، كأنه شاف حاجة محدش يقدر يفهمها غيره.. بس الليلة دي، الليلة اللي مات فيها…”

 

سكتت لحظة، وكأنها بتحاول تلاقي طريقة تحكي بيها اللي شافته من غير ما تحس إنها مجنونة.

 

” طلب اننا لازم نسيب البيت .. كان بيردد كلام غريب زي ان ادهم مش هيسبني .. كل ال ماتوا هينتقموا مني .. رجعت البيت لقيت الباب مفتوح..  لما روحت بيت اخويا وحكتله صمم اننا لازم نروح ومنسبهوش في الحالة دي .. باب البيت كان مفتوح كنت حاسة بحاجة غلط من أول خطوة دخلتها. الهدوء كان مرعب.. كأن البيت كله مات قبله.. دخلت أوضتنا، و… و…”

 

اتكتم صوتها، إيديها اترعشت، وكأن المشهد بيرجع قدام عينيها من تاني. عاصم فضل ساكت، مستنيها تكمل..

 

” لقيته شانق نفسه وجسمه كله عريان .. وفي اوشام غريبة في جسده اول مرة اشوفها وآثار كدمات .. وجمبه المذكرات ال قدامك دي ..

 

المحقق ( عاصم )عدل قعدته على الكرسي الحديدي، ضهره كان مفرود بس مسترخي، إيديه متشابكة على الطربيزة، وصوابع إيده الشمال بتخبط بهدوء على الخشب، كأنه بيحسب الوقت أو بيختبر صبرها.

بص لليلي بثبات، وبعد لحظة صمت قاليها بصوته الخشن، اللي فيه نبرة تسلل للدماغ:

 

“طيب، يا مدام ليلي ، عايزك تفكري كويس.. مين أقرب شخص كان ل د. سامر في الفترة الأخيرة؟ حد كان بيزوره دايمًا؟ بيتكلم معاه كتير؟ أي حد ممكن يكون له علاقة بالحالة اللي وصل لها؟”

 

صوت عاصم كان ما بين الجدية والاستجواب الهادي، مش عايز يخضها، بس في نفس الوقت مش بيديها فرصة تهرب من السؤال. كان عارف إن أي إجابة هتقولها ممكن تفتح باب جديد في القضية.

 

ليلي رفعت عينيها ببطء وقالت

 

” اقرب حد كان دكتور زميله اسمه عمر .. كان لازم يشوفه يوم الجمعة ولو سامر مرحلوش هو بيجيله ..

 

《 قبل سنة من بداية الاحداث 》

 

أغلب المرضى اللي بيجولي بيكون عندهم نفس الأنماط: خوف، قلق، أوهام… حاجات ليها تفسير علمي، حتى لو كانت مرعبة في نظرهم. عمري ما كنت بصدق إن في حاجة “ورا” العقل… لحد ما قابلت “أدهم”.

 

الجلسة بدأت بشكل عادي، زي أي جلسة مع مريض جديد. سجلت اسمه، سنه، الأعراض اللي بيشتكي منها. كان قاعد قدامي، ملامحه شاحبة، وعينه… فيها حاجة غريبة. مش الرعب اللي بشوفه في عيون المرضى، لا… عينه كان فيها حاجة تانية، كأنه شايفني بطريقة مختلفة.

 

سألته بهدوء:

 

طيب، أدهم… قولي، إيه اللي جابك هنا؟

 

رفع عينه ليّا ببطء… لحظة صمت طويلة، طويلة لدرجة إنها خلتني أحس بعدم ارتياح. أخيرًا نطق، لكن صوته كان أهدى من اللازم، وكأن الإجابة كانت معروفة من قبل ما أسألها:

 

-أنت.

 

حسيت بإحساس غريب… مش مفهوم، بس مش مريح. ابتسمت ابتسامة مهنية وحاولت أوجه الحديث:

 

تقصد إيه؟

 

أدهم ميّل راسه شوية، وعينه كانت مركزة عليّ بتركيز غير طبيعي، وبعدها قال بصوت منخفض جدًا، كأنه سر لازم يتقال بهدوء:

 

-المفروض أنت اللي تبقى مكاني، دكتور سامر.

 

حركة لا إرادية… إيدي تشنجت على القلم، قلبي دق أسرع شوية. حاولت أحافظ على هدوئي وسألته بنبرة حازمة:

 

-أدهم… أنت عارفني؟

وبعدين… قصدك إيه لما قلت المفروض أنا اللي أبقى مكانك؟”

 

بصلي بنظرة غريبة، أقرب لحد بيتأكد إن الشخص اللي قدامه يستحق يسمع الحقيقة، وبعدها قال بهدوء:

 

“أنا حلمت بيك دكتور سامر… مش مرة، ولا اتنين… أنا حلمت بيك كل يوم، لمدة شهر.”

 

شدديت قبضة إيدي على القلم، لكني حافظت على هدوئي:

 

“حلمت بإيه بالظبط؟”

 

مسح وشه بإيده، و كان واضح إنه متردد، لكن بعد لحظة قال بصوت أهدى:

 

“حلمت إني قاعد في العيادة دي… على الكرسي ده، قدام مكتبك، وأنا بحكي لك عن حاجة… حاجة مش فاكرها لما بصحى.”

 

سألت بسرعة:

 

“مش فاكر أي حاجة من الحلم؟”

 

“لا، فاكر جزء واحد… أنت في الحلم كنت بتكتب حاجة في الدفتر بتاعك، وبعدها… كنت بتبصلي بخوف.”

 

الجملة دي لوحدها خلت القشعريرة تمشي في ضهري، لكني كملت  بأسلوب مهني:

 

“طب وإيه المشكلة؟ أحلام مالهاش تفسير واضح، ممكن تبقى مجرد حاجة في عقلك الباطن.”

 

أدهم هزّ راسه ببطء، وبعدها قال بجملة قلبت الدنيا كلها:

 

“المشكلة… إن الورقة اللي كنت بتكتبها في الحلم… لقيتها في جيبي النهاردة الصبح.”

 

حست بتقل غريب في صدري، عقلي رفض الفكرة فورًا، لكن أدهم كان سابقني بخطوة. مدّ إيده في جيب الجاكت بتاعه، وطلع ورقة متنية، وحطها على المكتب قدام سامر.

 

بإيد مترددة، فتحت الورقة…

 

كان فيها خطي انا.

 

وكان مكتوب فيها جملة واحدة:

 

“متصدقش .. انت ال عملت كل حاجة .”

 

رفعت عيني في رعب، لكني اتجمدت في مكانه… لأن أدهم كان بيبتسم

السابقانت في الصفحة 1 من 4 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
2

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل