منوعات

قصة رسالة من زوجي  تأليف السيد عبد الكريم

قادتني قجرحاي إلى طريق المترو وظللت صامتا ساكنا كجثة ، أحد الرجال سألني أين سأنزل لم أرد ، بعدها قال :
ـ المحطة اللى جاية محطة رمسيس .
نزلت محطة رمسيس ودخلت محطة القطار ، مشيت لحد ما وصلت إلى مخزن القطارات ، مش عارف الساعة كانت كام بالتحديد بس كانتْ الدنيا ظلام ، ركبت احد القطارات الفارغة من الركاب وقررت إنّي أنام لحد الصبح ، مكنتش عارف إنْ القطار هيتحرك بعد ساعة ،  لمّا صحيت لقيت نفسي في محطة ( ملوي ) وهي مركز تابع لمحافظة المنيا ، بائع الفول والطعمية والسميط كان بيمر قدّامي فتذكرت إني لم أتناول أي طعام من أخر ساعة كنت في المستشفي ، ناديت على البائع ورائحة الطعام جعلت لعابي يسيل ، بدأت أفتش في جيبوبي عن فلوس فلم أجد ، أشرتُ للبائع بالمغادرة ، البائع سبني ولعنني وغادر ، ساعتها الراجل اللى كان قاعد جمبي نادي على البائع وأمره بإعطائي سندوتشات فول وطعمية وسميطة ودفع الفلوس ، مكنتش عارف أتصرف ازاي بس الراجل همس في أذني قائلا :
ـ باين عليك ابن حلال … عامة كلنا معرضين للموقف ده … تناول طعامك .
تناولتُ طعامي في شراهة ولذة ، الراجل سألني :
_
ـ رايح فين ؟
لم أرد ، فسألني :
ـ طيب اسمك إيه ؟
لم أرد ، ساعتها الراجل حط أيده على كتفي وفضل يواسيني بعبارات زي ( معلهش ـ حصل خير ).
بعد 3 ساعات لقيت الراجل بيحمل حقيبته استعدادا للنزل ووضع في يدي فلوس واستعد للانصراف ، القطار ساعتها كان توقف وبدأ الكثير من الركاب ينزلوا ، قلتُ للراجل :
ـ ممكن أجي معاك ؟
أجاب بسرعة :
ـ تشرفني .
الراجل كان أسمر الوجه وتقريبا جاوز الخمسين من عمره ويتردي جلباب صعيدي وعلى رأسه شال أبيض ملفوف بعناية وفى يده حقيبة كبيرة ، نزلت معاه المحطة وقرأت :
( طهطا )
_
الراجل أخبرني أننا في طهطا وأننا هناخد عربية لحد ما نوصل القرية اللى هو عايش فيها ، وبعد 40 دقيقة كنا على مشارف القرية ، ولمّا وصلنا بيت الرجل رأيت فتاة في الثانية والعشرين تقريبا بتجري علشان تحمل الحقيبة عن والدها ، ثم قالتْ وهى تنظر نحوي :
ـ ضيف ؟!!!
الرجل أجاب قائلا :
ـ ابن حلال ..مش فاكر اسمه ولا عنوانه … جهزي له الأوضة القبلية ، ابتسمتْ الفتاة لي ابتسامة صافية وقالتْ :
ـ شرفتنا .
في بيت الرجل تعرفت على زوجته مديحة وعرفت إن بنته الوحيدة اسمها رحمة ، وفي جو اسري تملأه المودة والرحمة تناولتُ الغداء اللى كان بتفوح منه رائحة السمن البلدي والعيش الصعيدي ، أكلت كأنّي مأكلتش قبل كده ، وبعد الأكل قامتْ رحمة بإحضار الشاي الثقيل وقالتْ في رقة :
ـ تفضل .
الراجل قال :
ـ أنا عمك حسن … وأنتَ هتعيش معانا هنا لحد ما تفتكر أنت مين … وبعدها اللى فيه الخير يقجرحه ربنا .
شكرته على قبل أن يصحبني معه إلى أوضة منفصلة عن الدار بس تقع في الجهة الخلفية من البيت ، الاوضة كانتْ ملحقة بحمام ومطبخ وتطل على الحقول والمزارع ، نمت لحد الليل ، وبالليل سمعت طرقات على باب الحجرة ، ولمّا فتحت لقيت رحمة ، ابتسمتْ فلمعتْ عيونها الواسعة وقالتْ :
_
ـ ابويا بيقولك تعالى علشان تتعشي .
وتكرر مشهد النهار ، جو أسري ، كلام ، طعام ، شاي ثقيل ، ابتسامة رحمة ، وكل الكلام كان عن المزرعة والمحصول والتجار والأرض الزراعية ، استأذنتُ منهم وغادرت لحجرتي ونمت .
تاني يوم صباحا استقيظت وخرجت أتجول بين الحقول والأشجار والزروع ، وشفت عربيات الشاحنات العملاقة وعربات النقل وهي خارجة من طريق المزرعة وعليها أطنان من أقفاص الفواكه والخضروات ، كنت حاسس إنّي في جنة ، منظر مريح للعين ، هواء نظيف ، سماء صافية ، وشفت أبراج المرفق الصحي الزاجل تنتشر في أركان القرية والمزرعة ، ساعتها رأيت رحمة ، ابتسمتْ وقالتْ :
ـ صباح الخير يا …
صمتتْ قليلا ثم أكملتْ :
ـ أقولك يا إيه ؟
أجبتُ :
ـ بصراحة مش فاكر … بس اى حاجة ؟
قالتْ :
ـ طيب أنتَ كنت عايش فين وقابلت أبويا ازاي ؟
_
قلتُ :
ـ اخر حاجة فاكرها لمّا كنت في المستشفي ، وبعدها نمت في قطر … كنت بحسبه قطر في الجراش … ولما صحيت لقيت نفسي هنا .
قالتْ في رقة وعيناها تشعان ذكاء :
ـ معلهش … هتفتكر .
سألتها :
ـ هو عم حسن فين ؟
أجابتْ :
ـ في المزرعة .
قلتُ :
ـ فى مزرعته ؟
_
أجابتْ ضاحكة :
ـ لا … بس هو شغال فيها .
قلتُ :
ـ طيب ممكن تعرفيني أوصلّه ازاي ؟
سألتني :
ـ ليه ؟
أجبتُ :
ـ هساعده .
قالتْ معترضة :
ـ لا ميصحش … أنتَ ضيف عندنا .
_
قلتُ :
ـ ضيف لو هقعد يومين ولا تلاتة … بس أنا هقعد على طول … ولا زهقتوا منّي .
قالتْ بسرعة :
ـ يا خبر … دا أنتَ نورت البلد .
كانت رقيقة جذابة ترتدي جلبابا سماويا وعلى رأسها غطاء فشل أن يُخفي ضفائر شعرها الذهبي ، وجه أبيض  مستدير تعلوه عينان ساحرتان ، أشارتْ لى ناحية طريق المزرعة بجوار الترعة وقالتْ :
ـ أخر الطريق شمال هتلاقي الأنفار وأبويا معاهم .
تفاجأ عم حسن بقدومي وقدّمني للرجال قائلا :
ـ دا غريب قريب المعلم صابر بتاع سوق العبور .
ومنذ هذه اللحظة وبدأ الناس ينادوني باسم ( غريب ) ، عن حسن كان معترض إنّي أساعده بس تفاجىء إنّي بعرف أقرأ واكتب وانبهر أوي وقال :
ـ طيب هنروج لـ شاهين وهو هيشغلك .
_
سألته :
ـ شاهين دا صاحب المزرعة .
ضحك عم حسن وقال :
ـ لا دا اللي بيقوم بإدارة المزرعة … لكن البيه الكبير مش فاضي من شغله وسفره .
عم حسن قدّمني لشاهين على إنّي ( غريب صابر ) ، شاهين كان شاب تقريبا جاوز الخامسة والأربعين ، بس مش عارف ليه لمّا شفته مكنتش مرتاح خالص ، جايز علشان تقاسيم وجهه الصارمة وجايز علشان كان بيكلمنا بطريقة فيها تكبر ، المهم شاهين قال :
ـ طيب دلوقتي يشتغل العمّال وطالما يعرف يقرأ ويكتب هشوف له فرصة في الحسابات قريب .
وبدأت أجني الثمار وأحمل الأقفاص على كتفي لحد العربيات والشاحنات العملاقة ، الشغل رغم إنّه يبدو للبعض سهل لكن كان بالنسبة لي صعب وشاق ، وبعد الظهر أمرنا شاهين باستراحة لمدة ساعة لتناول الطعام ، والطعام كان مجانا لكل العمال ، جلستُ تحت شجرة برتقال أتناول طعامي بعيد عن العمال ، وشاهين كان بالقرب منّي يعبث في تليفونه المحمول ، وفجأة سمعت شاهين ينادي عليا قائلا :
ـ غريب … بص كده علي الكاميرا .
لمّا بصيت على الكاميرا قال :
ـ ابتسم .. ابتسم يا غريب .
_
مكنتش عارف هو بيعمل كده ليه بس لمّا ابتسمت ألتقط لي صورة ثم انصرف وهو يعبث في تليفونه المحمول .
يتبع ….
الفصل السادس
يرويه نادر التاجي
لمّا شاهين قام بتصويري بالموبيل مكنتش عارف بيعمل كده ليه ، بس عم حسن نصحني إنّي لازم أطيعه ؛ علشان هو اليد اليمنى للبيه الكبير ولازم يكون مبسوط منّي على حد تعبير عم حسن علشان استمر فى الشغل ، وكمّلت شغلى في جني الثمار وحملها عبر أقفاص إلى شاحنات وعربات ضخمة تابعة لكبار التجار في محافظات القاهرة والإسكندرية ووجه بحري ، وعند المساء وقفنا طابور أمام شاهين لنحصل على الأجرة ، عرفت إنْ العمّال هنا بيحصلوا على راتبهم بشكل يومي ، ولمّا نادي شاهين على اسمي تقجرحتُ وانقدني أجرتي وأخبرني أنّه لابد من الحضور مبكرا غدا ؛ لأن تاجر مشهور سيأتي لشراء حصة من الفواكه ، انتهي اليوم وخرجت من المزرعة وبدأت أتجول في القرية وشوارعها وسوقها ، وقمتُ بشراء ما يلزمني من طعام وعدت إلى غرفتي ، صعدتُ الغرفة وبدّلت ملابسي التى أعطاني إيّاها عم حسن ، وبدأتُ في تجهيز الطعام ، ثم سمعتُ طرقات على الباب ، كانتْ رحمة تبتسم في رقة، قالتْ :
ـ مساء الخير .
ارتبكت شوية ورددتُ التحية ، ثم سمعتها تقول  :
ـ عرفت إنّهم بينادوك باسم غريب .
مكنتش عارف أرد أقول إيه بس قدرت أتشجع وقلت :
ـ اهو اسم وخلاص .
_
قالتْ :
ـ عارف … انا مش حابه الاسم ده …انا هناديك باسم ضياء .
قلتُ :
ـ ماشي .
ويظهر إنْ إجابتي مكنتش كافية ؛ لأنّها قالت :
ـ مسألتش يعني اشمعنا الاسم ده .
قلت :
ـ جايز يكون اسم حد من قرايبك أو حد عزيز عليكي .
ضحكت ضحكة مشرقة بدت فيها أسنانها الناصعة وضاقتْ عيناها في سعادة وقالتْ :
ـ لا .
_
قلتُ :
ـ طيب اومال إيه ؟
أجابتْ :
ـ هتعرف مع الأيام .
لم أرد ولم تتكلم هي وطال الصمت ثم قالتْ :
ـ طيب تعالى بقا علشان أنا مجهزة الأكل من بدري .
قلتُ :
ـ لا … أكل إيه … كفاية عليكم كده وانا جبت أكل من السوق على فكرة  وهجهز لنفسي .
قالتْ في توتر واضح :
ـ طالما أنا موجودة يبقي مش هتاكل إلاّ من إيدي قصدي إلاّ معانا في بيت عمك حسن .
_
لم تمهلني لأعترض ؛ فذهبتُ معها .
( متنسوش روايتي الجديدة اسمها مدينة أوكجي هتلاقوها الان فى معرض الكتاب)
كنا حول مائدة الطعام أنا وعم حسن ومديحة ورحمة التى كانتْ تنظر لى إذا توقفتُ عن الطعام قائلة :
ـ هو الأكل مش عاجبك .
وبدأ عم حسن يتحدث عن المروعة والعمّال والبيه الكبير وشاهين ، ثم قال لزوجته :
ـ تخيلي إنْ غريب بيعرف القراءة والكتابة .
نظرت لي رحمة بإعجاب كأنني عالم فضاء ، كانتْ عيناها تقول أشياء كثيرة ، قلتُ :
ـ أنا حاسس كمان إنّي خريج جامعة .
قالتْ رحمة :
ـ لا جامعة إيه … هي القراءة والكتابة وخلاص .
_
مكنتش فاهم تقصد إيه بس قالتْ موضحة :
ـ لو خريج جامعة يبقي أكيد هتتركنا لمّا تفتكر حياتك .
قلتُ :
ـ معقولة … طيب والله أنا حاسس إنّكم أهلي …واللى عمله معايا عم حسن ..
قاطعني عم حسن قائلا :
ـ عيب الكلام ده يا غريب … أنا اللى عملته معاك كنت هعمله مع أي حد كان فى موقفك .
انتهينا من الطعام ونهضت للرحيل لكن رحمة قالتْ :
ـ لا … استنى لمّا تشرب الشاي .
كنت في حرج من هذا الكرم وهذه المعاملة الحسنة ، لكنني صممتُ على الرحيل .
فى غرفتي فتحت الشباك المُطل على الزروع والأشجار ورحت أفكر ، أنا مين ، وحياتي السابقة شكلها إيه ، وكنت عايش فين ومع مين ، وليه الضبّاط كانوا عايزين يحققوا معايا في المستشفي ، أنا شفت بعينى المحققين ووكلاء النيابة كل يوم وكل ساعة في المستشفي ما بيصدقوا إنْ مريض يقدر يتكلم ويحققوا معاه ، يا تري إيه الجريمة اللى عملتها ، وازاى أصلا شاركت مع الناس دي في جريمة كانت مخلية رجال الشرطة والقضاء مهتمين أوي كده ، وبينما أنا شارد في أفكاري سمعتُ طرقات على الباب ، حينما فتحت الباب وجدت رحمة تحمل بين يديها صينية عليها كوب شاي ، قالتْ :
_
ـ أزعجتك ؟
أجبتُ :
ـ لا طبعا … بس أنا محرج أوي من المعاملة دي … حاسس إنّي حمل تقيل عليكم … إقامة وأكل وشرب وانتو متعرفوش عنّي حاجة .
قالتْ في تعجب :
ـ نعرف عنّك كل خير … سيبك من الماضي يا ضياء … أنتَ من ساعة ما جيت هنا مشفناش منّك غير الأدب والاحترام
قلتُ في نفسي
( أه لو يعرفوا إنْ الشرطة بتبحث عنّي وعايزين يحققوا معايا فى الجريمة اللى أنا عملتها ) ،
المهم سمعتها بتقول :
ـ يعني ناس كتير تتمني تنسي ماضيها وتبدأ حياة جديدة ..وأنتَ بتحاول تفتكر ماضيك !
قلتُ :
_
ـ انتي متعلمة يا رحمة ؟
أجابتْ :
ـ على قدي … دبلوم …. مش جامعة زي ناس تانية .
قلتُ :
ـ انتي هتزعلي يعني لو أنا طلعت خريج جامعة .
شردتْ في خواطرها فزاد جمالها وقالت دون أنْ تنظر نحوي :
ـ مش عارفة .
قلتُ :
ـ عامة أنا مش عارف ولا فاكر أي حاجة عن حياتي الماضية …وموضوع إنّي خريج جامعة مجرد إحساس مش اكتر .
قالتْ في حزن وشرود :

انت في الصفحة 3 من 9 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
148

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل