
العجوز!
أنا متأكد أنه هو رغم أنه مكانش بنفس الشكل اللي قابلني بيه على الطريق!
كان متغطى بالدم، ووشه مشوه بطريقة بشعة، لكن نظرة الغِلّ كانت هي نفسها مرسومة على ملامحه، إن مكانتش زادت حدة. مقالش حاجة، لف ومشى ببطء، سايب وراء أثر من الدم بتاعه.
الدكتور دخل بعد لحظات، مبتسم وبيقول: — “اللي حصلك ده معجزة يا عمر! أنت الناجي الوحيد من الحادثة!”
حسيت برعشة في كل جسمي لما قال كده، إزاي أكون الناجي الوحيد وأنا لسه شايف العجوز هنا من شوية؟ جايز مات بعد ما شوفته، ولا هو مات فعلا بس أنا لسه بشوفه؟
بس كل ده مكانش حاجة غير البداية..
خرجت بعد كام يوم من المستشفى، خرجت واحد تاني غير اللي كنت عليه قبل الحادثة، الأيام بقت غريبة الوقت ساعات بيجري بسرعة من غير ما احس بيه، وساعات تانية الدقايق بتعدي عليا بملل غريب، مبقتش أشوف العجوز بس، أنا بقيت أحس بيه معايا في أحلامي، في ظلي، في المرايا، في زوايا الشوارع المهجورة، مكانش مجرد وهم، أو تأثير جانبي بعد الحادثة، أنا بقيت متأكد أنه بيحاول يتواصل معايا..!!
وفي ليلة من الليالي الطويلة المملة، اللي كنت بفقد فيها القدرة على التمييز بين الواقع والكوابيس، ظهر العجوز قدامي بوضوح، المرة دي مكانش غضبان كالعادة، ملامحه كانت كلها يأس، بصلي بعيون فاضية مطفية، وهمس لي بصوت خشن شبه ميت:
— “كمل اللي مقدرتش أكمله والا هتعيش عمرك الباقي معايا، في عالم لا هتعرف تميز حقيقته من سرابه، ولا سريان وقته وجموده..”
خلص كلامه واختفى بس بعدها حسيت بشيء غريب، بيجبرني على الحركة، بيدفعني أدور، ورا تكملة مهمة مكانتش ليا من الأساس، مهمة معرفش تبقى ايه، لكن اللي أعرف كويس ومتأكد منه أن مصيري دلوقتي مربوط بروح العجوز وإكمال مهمته، وإلا مش هعرف معى السلام أبدًا.
ويبقى السؤال الحقيقي دلوقتي… هل هقدر على تنفيذ المهمة دي وأرجع لحياتي الطبيعية، ولا هفضل في اللعنة دي للأبد ..؟
مكانش عندي خيار تاني، العجوز مبقاش مجرد شبح عابر، كان لعنة متجسدة في شبح بني آدم، لعنة بتلاحقني في كل مكان، في الضلمة، في الشوارع المقطوعة، في صدى الأصوات المجهولة، كل ليلة بسمع نفس الكلام بيهمس بيه في ودني زي فحيح الأفاعى:
— “روح القرية… كمل الطقوس…إزرع البذرة في قلب البير”
حاولت مقاومة اللي بيحصل، حاولت أتجاهل الأصوات، كنت بفضل صاحي بالأيام علشان أهرب منه، لما بضعف لحظة وأغمض عيني، كنت بشوفه مستنيني هناك ورا حاجز الجفون بنظرته الموجهة المباشرة، وكأنه بينزع بيها روحي ببطء،
مبقتش عارف اعيش كنت حاسس ملامحي اتغيرت من قلة النوم وده خلاني في النهاية أستسلم وأقرر أسيب نفسي لهمس العجوز وأكمل المهمة مكانه..
قررت أسافر القرية…
اللي مكنتش عارف مكانها، لاقيت نفسي سايق عربيتي بدون وعي، كأن هناك خريطة جوه دماغي، خريطة رسمها العجوز في عقلي من غير وعي مني، العربية عطلت في مكان ريفي معزول بصيت في ساعتي كانت نص الليل، بصيت حواليا علشان أشوف إضاءة على بعد كام كيلو، حاولت أدور العربية بدون جدوى، قفلت العربية ومشيت في اتجاه الضوء، مشيت لحد ما لاقيت نفسي جوه قرية معزولة وسط الأراضي الزراعية، بيوت القرية بسيطة مبنية بالطوب الطيني، معظمها مهجورة مفيهاش سكان، شوارعها مقبضة للقلوب كأنها شايلة جوه تفاصيلها سر مخيف..
ورغم الفضول اللي ماليني بس أنا مكنتش هنا لمعرفة سر القرية الغريبة دي…
اتجمدت مكاني لما شوفت العجوز قدامي بيقول..
” كمل الطقوس…إزرع البذرة في قلب البير”
بحروف مقطعة مترددة في الخروج قلت :
أي بذرة ..؟
قرب ليا بطريقة سريعة من غير ما رجله تلمس الأرض وقال:
البذرة هي .. عيني برقت وجسمي ارتجف لما همس لي بمواصفات معينة لطفلة من القرية..
البذرة تبقى طفلة مكملتش الخمس سنين..!!
تاني يوم في أول الليل، وقفت في زقاق مظلم، براقب البيت الطيني القديم، اللي دلني عليه العجوز، كانت قدامه طفلة صغيرة بتلعب لوحدها قدام الباب، مفيش حد معاها ياخد باله منها، كأنها مهيأة تتقدم قربان..
حسيت بنقط عرق باردة بتزحف على جبيني، عمري ما فكرت في أكون مجرم، خاطف قاتل، أنا عمري ما كنت كده ولا حتى في خيالاتي، لكن من يوم الحادثة وأنا مبقتش أنا، شيء مجهول جوايا بيتحكم فيا وبيحركني ك دمية، جسمي كله كان متجمد وواقف مكاني، الا رجلي اللي اتحركت بيا رغم عني في اتجاه الطفلة، وكأن فيه مغناطيس بيجذبني ليها بإبتسامة عريضة قلت :
— “تعالي معايا… هوريكي مكان جميل…”
بصتلي ببراءة، واترددت للحظات، وقبل ما ترد اتحركت ناحيتها بسرعة وحطيت ايده على بوقها، وشيلتها بين ايديا وجريت..
جريت بسرعة، للمكان اللي عطلت فيه العربية بس قبل ما أوصل شوفت العجوز قدامي في وسط أرض زراعية بيدلني على الطريق، مشيت وراه لحد ما وصلت لبير قديم وسط الأراضي الزراعية.. بير مهجور بصيت على العجوز بس كان اختفى، مفيش غير ضلام وكأن الضلام نفسه هو اللي وصلني لهنا….
وقفت قدام فوهة البير، اللي قلبه عميق ومظلم، كأن قاعه زي ثقب أسود بيبلع الضوء جواه. حسيت بأيدي بترتجف، بدأت أسمع اصواات حواليا، خيالات سودا شوفت وسطهم العجوز واقف بيراقبني، في اللحظة دي كنت حاسس ان حاجة تقيلة جوايا متحكمة فيا، بصيت للبنت البريئة على ايدي كانت بتبكي من غير صوت، مش عارفة ومش فاهمة ايه اللي بيحصلها.. للحظة رجعت لوعيي سألت نفسي أنا فين وايه اللي بعمله ده..؟
سمعت همس غريب بيرج عقلي، بصوت خافت زي فحيح الموت:
— “ثلاثون فتاة… وفي النهاية، ستعود التي لم يكن ينبغي لها أن تذهب…”
حسيت بألم شديد جوه دماغي، ألم لا يحتمل علشان بعدها
أرفع الطفلة ببطء، وقلبي بينبض زي طبول الحرب، غمضت عيني للحظة… وسيبتها في قلب البير….!!
الضجيج في دماغي اتحول صمت، صمت قطعه صوت ضحكة شيطانية..
ضحكة أنثوية.