
لما اشتغلت في مصحة للعلاج النفسي، أبويا قالي إني عيان زيهم ومحتاج علاج بس مصدقتوش. كنت بتعصب من أقل حاجة وأنا بعامل المرضى، مكنتش بستحملهم وبيوصل الموضوع لوقف عن العمل لشهور.
وفي يوم، كان فيه حالة ست في عمر التلاتين بتابعها، اسمها “نحمده”.
المهم، كنت كل ما أتعصب، هي تهديني، لحد ما في يوم كسرت المكتب اللي أنا قاعد فيه، عشان كنت بدور على شريط فيلم بحبه لعادل إمام اسمه “الإنسان يعيش مرة واحدة” وملقتوش أيام ما كان لسه الفيديو شغال. فضلت أكسر الشرايط وأنا بدور عليه، وتاني يوم ببص لقيتها داخلة عليا بالشريط.
بقولها: “جبتيه إزاي؟”
قالت: “بنت قريبتي جتلي زيارة وطلبته منها عشان أهدى شوية.”
كنت معاها ببقى زي العيل الصغير، وهي عمرها ما فشلت في يوم إنها ترجعني لحالتي الطبيعية، وكأنها الدكتورة النفسية بتاعتي مش العكس.
لحد ما ابتديت أصدق أبويا إني فعلا عيان، ومش دكتور ولا أنفع للشغلانة دي، لأنها شغلانة عايزة طولة بال.
ولما أبويا مات والدنيا اسودت في وشي، لقيتها بتعزيني وبتقولي: “إن الدنيا فانية ولا دايم غير وجه الله.”
أنا معرفش هي إزاي في مصحة وإحنا اللي بره؟! أنا حتى عمري ما شُفتها في حالة انفعال.
وفي يوم، اتنقلت لمصحة تانية، فضلت فيها أكتر من خمس شهور، لحد ما جالي اتصال من المصحة القديمة بيبلغوني إن “نحمده” بتمو,ت.
يومها روحتلها، لقيت حالتها صعبة جدًا، عمالة تصرخ وتحت عينيها اسودّ، قولت للدكتور صاحبي المسؤول عن حالتها إني هخرج معاها وهرجعها تاني، ولولا إنه حبيبي وصاحبي من زمان مكنش هيوافق، لأن دا شيء غير قانوني.
المهم، عديت بيها من قدام سينما كانت عارضة أفيش فيلم
“المحفظة معايا” بتاع عادل إمام ونورا، فطلبت مني إننا ندخله.
ربكم والحق، خوفت ليحصل حاجة جواها ويتفرج علينا الناس، بس لمعة عنيها قدام الأفيش حسستني إنها لقت نفسها. دا غير إني بحب أفلامه أنا كمان. دخلنا الفيلم، وهي ماسكة في إيدي زي العيلة، وفي نص الفيلم عيطت وقالتلي:
“كانت حلوة زي نورا.”
قولتلها: “هي مين؟”
قالت: “نحمده الصغيرة.. بنتي.”
قولتلها: “أنتي كان ليكي بنت على اسمك؟!”
قالت: “أيوه، كنا تلاتة، أنا وهي وجوزي صبري، وكنا عايشين في مساكن العمال بتاعة شركة الغزل والنسيج. جوزي مات في حادثة هو ونحمده الصغيرة، وأنا بقيت لوحدي. أهلي دخلوني المصحة عشان يخلصوا مني، وفضلت أحلفلك إن كل التقارير مزورة، وأهلي إيدهم طايلة.”
أنا بصراحة خوفت أكدبها، وفضلت أقولها: “أيوه، مصدقك”، عشان تثق فيا ومتزعقش في السينما.
كانت بتقولي:
“جوزي كان بيحب عادل إمام قوي، وعشان كده كل فيلم لعادل إمام بيفكرني بيه، وبحس إنه مماتش، وإننا قاعدين نتفرج عليه في بيتنا مع نحمده الصغيرة.”
حكتلي عن عادل إمام وأفلامه والممثلين والسينما والفن.
الغريب إننا سرحنا في الكلام ونسينا الفيلم.
الكلام دا مكنش فيه سيرة مرض ولا عيانين خالص، كأننا اتنين نقاد، بنتكلم بكل حرفية عن الأفلام. هي نسيت إنها المريضة، وأنا نسيت إني الدكتور.
حب الفن والسينما خلانا واحد.
قالتلي: “إنت لازم تحب عشان عصبيتك تهدأ، لازم يكون فيه إنسان قادر يخرجك من كل الحالات الوحشة اللي الدنيا هتحطك فيها، حتى لو الحد دا بطل سيما بتحبه وبتابع أفلامه بشغف.”
خلصنا السينما، ورحنا قعدنا على نصبة شاي في الشارع، شربنا كوبايتين مظبوطين، ولقيتني بحكيلها عن كل مشاكلي، من أول خطيبتي اللي سابتني عشان عصبي وبزعق، لحد أبويا اللي كل ما يشوفني يقولي: “وعهد الله إنك مجنون.”
قولتلها على أول بنت شوفتها في حياتي في الكلية، وكانت بتبصلي على إني أقل منها في الشكل وفي الفلوس.
حكيت كل اللي في قلبي: كرهي للشغلانة اللي بشتغلها، للمنطقة اللي أنا عايش فيها، وحلمي إني أكون فنان.
كان أول مرة في حياتي، مكنتش مصدق إن عندي كل الكلام ده، لدرجة إني حسيت لأول مرة إني مريض.
مرضي كان إني قليل الكلام، وجوايا حكايات كتير مش عارف أقولها.
حكايات عن السينما، عن الحب، عن الناس، عن الفلوس.
كلام كتير مش لاقي اللي يسمعه.
وفجأة، لقيت نحمده.
وسألتها في آخر اليوم اللي خرجنا فيه:
“هو أنتي ليه تعبتي فجأة وقالوا إنك هتمو,تي؟”
قالت: “حسيت إني غريبة، ومحدش راضي يصدق إني مش عيانة.”
يومها حلفتلها إنها أعقل واحدة شوفتها في حياتي، ورجعت البيت وأنا زايح كل الكلام اللي كان في نفسي ومش عارف هحكيه لمين.
وكلمت صاحبي وقلتله إنها فعلا سليمة.
قالي: “دا مش حقيقي، هي فعلا تعبانة.”
ومصدقتوش، غير في اليوم اللي روحتلها زيارة، أول ما نزل الفيلم الجديد بتاع عادل إمام.
اشتريت شريط الفيديو بتاعه، وروحت أقولها إننا هنسمعه مع بعض، فضحكت وقالتلي:
“مأنا سمعته مع صبري جوزي ونحمده.”
عينيها غصب عني نزلت دموعها، وأنا بسألها: “هما فين؟”
قالت: “هما هنا.. كانوا هنا من شوية، وراجعين.”
يومها سيبت لها الشريط، وأنا بمسح عيني وبقولها: “طيب خليه معاكي، ولما يرجعوا اسمعوه مع بعض تاني.”
مشيت يومها وأنا زعلان من الدنيا لما تفرق الحبايب.
مشيت، وأنا متأكد إنها عيانة، بس الفن وحبنا ليه هو المحطة اللي كنا بنتقابل فيها.
عرفت إنها زيي، أنا كمان عندي مشاكل، بس الفن والكلام عنه بيخلينا سعداء.
الفن خلاني أنسى إني تعرضت لمشاكل في حياتي، زي خطيبتي، وزي البنت بتاعة الكلية اللي حسستني بالفقر.
الفن نساها إن نحمده الصغيرة بنتها، وصبري جوزها ماتوا.
ويوم ما يغيب الفن عن نحمده، وعني، وعن اللي زينا، وقتها بس هنحس بالوجع، وهنفوق لحياتنا باللي فيها من صراع وحزن، من فشل لنجاح.
قررت أسيب الشغل اللي مبحبوش.
قررت أدور على نفسي.
وفتحت محل لبيع أفلام عادل إمام، وسميته “نحمده”.
ما أنا كان لازم ألاقي نفسي، قبل ما أبقى في مصحة جنب نحمده، بسمع فيلم مش شغال، مع ناس مش موجودين.
#وليد_يسري
Waleed yosry