منوعات

حكاية غـ,ـريبة

 

 

كانت حكاية غريبة، عدى عليها أكتر من ستين سنة. ابتدى الفضول يكبر معايا يوم بعد يوم. كل ما أكون قاعد مع جدي، الله يرحمه، تحت شجرة التوت، وأسأله: ليه “القُلل” دي متعلقة كدا في شجرة التوت؟ كان يزوغ من الإجابة.

ولما كبرت، كنت بسمع كل أهل الكفر بيقولوا حكايات مختلفة عن القُلل دي، لأن محدش غير جدي واللي في سنه يعرفوا. وطبعًا جدي واللي قده، اللي وصلوا تمانين سنة، مش بتوع كتر كلام. والحقيقة ضاـ,ـعت بسكوتهم. فيه اللي قال إن جدي عاملهم سبيل، وفيه اللي قال إنهم بيمنعوا الحـ,ـسد، وإن اللي رايح واللي جاي بدل ما يبص على الأرض والزرع والخير، عينه هتروح تلقائي على القلل لحد ما يعدي، وبكدا الزرع ما يلفتش نظره. حتى سمعنا إن القلل دي الجن اللي حاططهم، وكانوا بيخوفوا العيال يروحوا الأراضي ساعة القيالة أو بالليل، عشان الجن ما ياخدش القلة من الشجرة ويضربها في دماغنا.

والغريب إن القلل ما بقتش في شجرة التوت بتاعة جدي وبس، لا، بقى كل فلاح معلق اتنين أو تلاتة في الشجرة بتاعته، ومحدش فيهم عارف السبب. لحد ما جه وقت، بقى كل شجر بلدنا متعلق فيه قلل، حتى الشجر الصغير ما سلمش منهم وعلقوا فيه قلل صغيرة. أما أصحاب الشجر الكبير قوي، قالوا: إحنا مش أقل من الناس، وراحوا جايبين زير معلقينه في الشجرة.

كانت عادة غريبة، زيها زي عادات كتير بنقلدها، ولا عارفين معناها ولا قادرين نفهم وجودها.

وفي يوم، جدي نده عليا وقالي إنه من صغره ما كانش له صحاب ولا حد بيحبه قد “عبدالحليم وجميلة”. كانوا من صغرهم مع بعض، مفيش أرض في الكفر ما تعرفهمش، مفيش زرعة فول ولا بسلة إلا وخدوا منها، مفيش أرض إلا ورجلهم علمت فيها. كانوا أطفال بيجروا وسط زرع ومياه وحياة.

سنة ورا سنة، اتولد حد رابع بينهم. الحد ده كان عشق عبدالحليم وجميلة. حبوا بعض لدرجة كان بيتغنى بيها المواويل في الكفور اللي جنبينا. حب طاهر، لا حب جسد ولا حب مال. كان حب من أجل الحب. كبروا واتفقوا على الجواز، واتفقوا برضو يسموا أول ولد ليهم على اسم جدي. كانوا تلاتة، لا ليهم أهل ولا ليهم حد. كبروا زي الزرع وعملوا نفسهم بنفسهم.

وفي يوم، كان عمي عبدالحليم قاعد في الخُص اللي جنب شجرة التوت بيغني لجدي الأغاني اللي هيغنيها في فرحه هو وجميلة.

قام جدي عشان يروح البيت، ورفض عبدالحليم يقوم معاه، لأنه جدع محلواني وكان يحب الليل والمغنى.

سكت جدي لحد هنا، ولأول مرة من يوم ما اتولدت أشوفه بيدمع. مع إن جدي تعب كتير، والمرض عمره ما كسر نفسه لدرجة البكاء.

بعد ما حكالي، عيطت لأول مرة معاه. الناس ممكن تجتمع على الضحك، على الأكل، لكن كان غريب عليا إني اجتمع مع حد على دموع إنسانية. يومها عرفت إزاي أعيش إنسان مش بس أحمل الاسم وخلاص.

لما جدي كمل الحكاية، عرفت إن النار بتاعة الشاي مسكت في الخُص وحرقت عمي عبدالحليم. الصويت اشتغل، وجري جدي عشان يطلعه من الخُص، لاقى رجله مربوطة عشان ما يعرفش يخرج. وقتها جدي عرف إنه اتقتل بالحرق. طلعه تحت شجرة التوت دي وهو خلصان وعلى وشك الموت. طلب بوق مياه. كان جدي لسه هيديله، لكن ابن الحاج مرزوق كان في الطب، وقالهم: المية غلط عليه. وكل ما عمي عبدالحليم يمد إيده، جدي يحاول يشربه، يجي ابن الحاج مرزوق ويقوله: كدا هتـ,ـموته.

جدي ربط القلة في الشجرة عشان عمي عبدالحليم ما يطولهاش، ولا فيه عيل صغير يديهاله، لحد ما يجري هو والرجالة يجيبوا حاجة تشيله أو يتصرفوا.

رجعوا بناس من المستشفى لقوه ميت. النيابة حققت بس ما عرفتش مين اللي قتله. لكن الشك الوحيد كان في “عوض”، اللي كان بيحب جميلة، بس اتحقق معاه وخرج لأن ما فيش دليل واضح ضده.

جميلة والحب اللي في قلبها لعبدالحليم خلاها تروح تصرخ تحت شجرة التوت كل يوم، لدرجة إن فيه ناس غُرب عن الكفر افتكروها النداهة، أو إن أرض جدي مسكونة. فضلت قاعدة في الأرض، وجدي يجيب لها أكل وشرب ما ترضاش، وتقول: “كان عطشان”.

ما كانش على لسانها غير الصويت وجملة “كان عطشان”. يوم والتاني، جميلة ابتدت تنشف وتدبل زي ورقة القطن لما الدودة تنهش فيها. راح جمالها ولمعت عيونها السوداء، وجسمها اللي كان يهز أجدع شنب. فضلت تنوح عليه لحد ما ماتت تحت شجرة التوت.

راح جدي معلق القُلة اللي كان حاططها جنبها تشرب منها، جنب القُلة بتاعة عبدالحليم.

جه جيل ورا جيل، وما بقاش حد عارف الحكاية دي غير اللي فاضل من الجيل اللي حضر الحادثة. والشوية دول عجزوا، لا حد مهتم يسمع منهم، ولا هما عندهم شغف للكلام.

وعشان كدا القُلل دي بقت عادة لأي جيل جديد. لما شافوا اللي قبلهم معلق قُلة في الشجرة، يبقى يعلقوا هما كمان.

يومها عرفت يعني إيه “ومن الحب ما قتـ,ـل”. عرفت إزاي تعشق بضمير، حتى لو العشق ده هيحولك لشخص مجنون، لدرجة إنك تموت بالبطيء وأنت مش حاسس.

اختفى عبدالحليم وجميلة، ويوم ورا يوم قصتهم وحكايتهم كانت بتتردم. لكن القُلل كانت بتزيد، وهتفضل تزيد. بس هتبقى قُلل فارغة، لا ليها أصل ولا قيمة.

لأن القيمة فعلًا بقت في شجرة التوت دي دونًا عن كل شجر البلد، وبقت في القُلل دي دونًا عن كل قُلل البلد.

لأن ده المكان اللي اتولد فيه أول كلمة بحبك، وأول لمسة من إيدهم، وأول اتفاق لفرحهم، وأول تسميع لأغاني الفرح من عبدالحليم العريس اللي كان صوته بيلعلع ويخلي الليل يدب بالحياة.

وبعد كل السنين اللي فاتت، وبعد ما جدي مـ,ـات، بقعد تحت شجرة التوت أشكر الإنسانية والحب، وأتمنى السعادة للجميع. وأتمنى إن محدش يمـ,ـوت عطشان.❤️

#وليد_يسري
Waleed Yosry

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
2

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل