
مكنتش أعرف يعني إيه صلاة، ولا سمعت حد اتكلم عنها قدامي، أو يمكن مش فاكر لأني كنت صغير وقت ما هربت من المدرسة الداخلي. كنت عايش في الجبل زي الديابة، أكلي بلح وشربي من البير. حياة صعبة ومحدش يقدر يعيشها، لكن مكنتش حاسس بكده، أنا مكنتش حاسس أصلًا.
مكنش في حياتي حاجة من ريحة أهلي غير الناي اللي ورثه أبويا عن جدي، وورثته أنا عن أبويا. قررت أعيش في الجبل زي المطاريد اللي هاربين من حكمهم. وفي يوم كنت قاعد بعزف على الناي، وقدامي شاي الجبل الأصلي اللي الشمس بتطيبه من فوق وسخونة الصخور والنار بتطيبه من تحت.
سمعت ضرب نار فوق دماغي، وطلع سبع رجالة بيفتشوا كل ركن من الجبل اللي أنا قاعد فيه، وفضلوا يسألوني عن واحدة اسمها “عفيفة” ومصدقوش إني معرفهاش. وعرفت بعد كده إن الجبل ده كانت مستخبية فيه واحدة اسمها “عفيفة”.
المهم، خدوني معاهم لمكان تاني فيه الريس بتاعهم. فضلوا يعذبوني أسبوع وأكتر عشان أقول عفيفة راحت فين، ومهما قلت وحلفت مبيصدقوش، لحد ما جه يوم، راجل رفيع زي العصاية قال إنه عرف مكان عفيفة. يومها ربطوني في الجبل وسابوني ونزلوا يدوروا عليها.
أنا حقيقي مكنش فارق معايا الضرب ولا البهدلة ولا إني قاعد معاهم غصب عني، كل اللي فارق معايا مين عفيفة دي اللي بيعملوا عشانها كده؟ يمكن أمهم مثلاً، ولا واحدة سرقتهم، ولا غزية من غوازي الموالد اللي بيروحوها، الله أعلم. فضل عقلي يجيب ويودي لحد ما لقيتهم راجعين، والريس بتاعهم شايل واحدة أقل منه في الوزن والسن، وأجمل منه في الملامح. لقيته بيفك إيدي وبيقولي:
تعرف تصلي عليها؟
وقتها اتلخبطت، ومكنتش عارف أقول إيه. خوفت أقول مبعرفش يق/تلني. بصيت لعينيه لقيتهم بيغلوا. فقلت:
طبعًا بعرف.
حطوها قدامي، وأنا وقفت وهما ورايا، بعد ما توضينا على قد علمي وهما يعملوا زيي. وقفت وقلت:
الله أكبر.
وهمّا ورايا. صليت ركعتين وسلمت، وأنا متأكد إنها صلاة غلط، بس معرفش. مكنش في إيدي حاجة أعملها غير كده، وغير إني أطلب من ربنا يسامحني على الكذب، وعلى قلة صلاتي، وعلى إني معرفش الصلاة كويس.
بعدها حفروا ليها ودفنوها في الجبل. فضل الريس بتاعهم همدان، لا بياكل ولا بيشرب، وهما بطلوا تلطيش فيا. وقال لي في يوم:
امشي لو عاوز تمشي.
قلت له:
لا رايح ولا جاي، أنا مليش حد. هقعد معاكم تتونسوا بيا وأتونس بيكم وبالايام بقينا أصحاب، وبدأ يسألني:
أصلي إزاي؟ طب يعني إيه حب؟ طيب عفيفة هتدخل الجنة لو أنا دعيت لها ولا لأ؟ طب ربنا هيقبل مني إزاي؟
أسئلة كتير جاوبت عليها باللي أعرفه. وحكالي حكايته وعرفت إنه طول عمره ماشي غلط هو والرجالة اللي معاه. وقال لي كمان:
كنت طول العمر ناشف، ميهمنيش حد ولا حاجة. من يوم ما شفت عفيفة وأنا مش مظبوط. بقيت أهتم بشكلي، ولبسي يبقى نضيف، وبقيت نفسي أظهر كويس قدامها.
قالي إنه مكانش يعرف يعني إيه حب، بس كان بينزل من الجبل يقعد قدام الأوضة الطين بتاعتها بالساعات. وده حطه في مشاكل كتير، منهم الحكومة اللي بتدور عليه، ومنهم أهل المنطقة اللي لما بيصدقوا يشوفوا واحد من رجالة الجبل يتخانقوا معاه، وهما مش خايفين بسبب النهار والناس.
كل ده مكنش فارق معاه، غير لما قالت له:
جواز إيه اللي بتتكلم عنه؟ هو أنا على آخر الزمن هتجوز من هجامة الجبل؟
بيقول الكلمة دي وجعت قلبي. ودي كانت أول مرة أتوجع.
وتاني مرة لما راحت اتجوزت واحد من بلد جنبهم.
وبالرغم من كده، فضل ينزل يقعد قدام بيتها بالساعات، ويراقبها، وساب اللي وراه واللي قدامه. ونسي إنه هربان من حكم، وإن الحكومة لو لقته هتعدمه. وقال لي:
في يوم جوزها ضربها وفرّج عليها الناس. فخدت الرجالة ونزلنا بيته، واتخانقت معاه وقلت له: دي أختنا، أوعى تفكر في يوم تزعلها، لنق/تلك.
فزعقت فينا وطردتنا وقالت: مالكوش دعوة بيه ولا بيا. يومها مشيت بلا رجعة، وبطلت أطمن عليها.
بس عرفت بالصدفة إنها هربت منه. ففضلت أدور عليها أنا ورجالتي لتكون محتاجة حاجة ولا في مصيبة. وكل ما نعرف مكان نروح نلاقيها مشيت منه، لحد آخر مكان اللي روحنا ولقيناها مق/تولة فيه.
الله أعلم جوزها ولا مين، ولا كانت هربانة ليه.
وراح معيط، وصوت عياطُه طلع. كنت مستغرب واحد زيه، في حجم جسمه الكبير ولا في هروبه من الحكومة، إنه ممكن يبقى حساس كده لدرجة العياط. يومها أنا خدته في حضني وقلت له:
أنت راجل طيب.
وفضل على الحال ده شهور وأيام. جسمه دبلان، وروحه تايهة منه. لحد ما جه في يوم وقال لي:
أنا قربت أموت.
ضحكت وقلت له:
هو أنت مكشوف عنك الحجاب ولا إيه؟
مردش عليا وقال:
ابقى ادفني في حفرة جنب حفرتها بالله عليك، وازرع حوالينا شجر كتير. خلي الحتة اللي إحنا فيها دونا عن الجبل كله تبقى خضرة. وخليك جنبنا بالناي بتاعك، وصدعلنا راسنا، وابقى ادعيلنا بالرحمة وبالستر في الآخرة.
وسابني ومشي يقعد في قعدته. ومفيش أسبوع إلا وكان ميت. يومها أنا عيطت كتير، عيطت لحد ما دموعي بلّت شنبي.
عملت اللي وصاني بيه. ورجالته قالوا إنهم ماشيين يدوروا على أكل عيشهم بعيد عن الجبل. فرفضت أروح معاهم، وفضلت قاعد في الجبل جنبهم بالناي. أعزف شوية وأعيط شوية، وعياطي ده
عشان الإنسان الأبيض من جوا هو اللي لسه قادر يحس ويعيط ويزعل ويحب ❤
#وليد_يسري
waleed yosry