
لم تكن الطائرة الصغيرة سوى نقطة بيضاء في زرقة السماء حين بدأت تهتز بعـ,ـنف. الصغير “نوح” تمسك بذراع أخته الكبرى “ليانا”، بينما كانت والدتهما تضغط على زر الأمان وكأنها تستجدي الرحمة من قطعة بلاستيكية. الطيار كان يصـ،ـرخ بكلمات سريعة، والمساعد يحاول تهدئة الركاب.
ثم حدث كل شيء في ثانية.
صر,خة واحدة،
استيقظت “ليانا” على رائحة دخـ،ـان، وصوت زقزقة عصافير لا تشبه أي شيء عرفته. رأسها ينز…ف، وذراعها ممدودة على جذع شجرة. حولها، كانت الأشجار تتعانق بوحـ،ـشـ،ـية، كأنها تهمس بسر قديم لا يجب أن يُكشف.
نظرت حولها فرأت شقيقها “نوح” (9 سنوات) يبكي على مقربة، و”أريج” (4 سنوات) تجلس مغمضة العينين، بينما كان “آدم” الرضيع مستلقيًا قرب الحطام… حي.
لكن أمهم… كانت هناك، جامدة، عيناها مفتوحتان بلا روح.
لم تبكِ ليانا. لا وقت للد..موع.
قادتهم “ليانا” بعيدًا عن الحـ،ـطـ،ـام، خو,فًا من اشتـ,ـعال النيران. كانوا حفاة، جا,ئعين، مذ,عورين. أدركت الطفلة أنها الوحيدة التي يمكن أن تفعل شيئًا.
جمعت أوراق الشجر، صنعت مأوى بسيطًا، وتذكرت ما قالته لها أمها ذات مرة:
“الغابة ليست عد,وة… لكن لا تنسي أنها لا ترحم.”
في الليل، تداخلت أصوات الغابة: صر,خات بعيدة، خشخشة أوراق، وصر,ير مر,يب. نوح سألها:
— “فيه وحو,ش؟” — “فيه… بس إحنا أقوى.”
مرّ اليوم تلو الآخر، كانوا يعيشون على ثمار برية مرة، ماء من أوراق الأشجار، وقصص تحكيها ليانا لتخدر خو,فهم.
آدم كان يضـ,ـعف، أريج تبـ,ـكي بلا توقف، ونوح بدأ يسأل أسئلة خطيرة:
— “لو أكلنا من الثعبان ده، نمـ,ـوت؟”
— “ما ناكلش حاجة بنلاقيها ميـ,ـتة. نفكر. نفكر بس.”
لكن العقل يضعف حين يقوى الجوع.
بعد أسبوعين من التيه، وجدت ليانا أثر قدم في الوحل… ليس أثرها ولا أثر إخوتها. كبير، ثقيل، واضح.
ركضت إلى المخبأ، لكنها لم تخبرهم. في اليوم التالي، وجدت رماد نـ,ـار صغيرة على بُعد خطوات من مكان نومهم.
لم يكونوا وحدهم.
ظهروا فجأة. وجوه مطلية باللون الأحمر، أجساد نحيلة، عيون تلمع تحت ضوء القمر.
قبيلة من السكان الأصليين. لم يتحدثوا لغة مفهومة، لكن عجوزًا منهم، بعين واحدة، كانت تراقب الأطفال طويلاً، ثم أشارت لليانا:
“أنت أمهم الآن.”
أخذوهم إلى قرية خشبية وسط الغابة. أطعموا الأطفال، داووا جروحهم، لكنهم لم يسمحوا لهم بالرحيل.
كانوا يؤمنون أن سقـ،ـوط الطائرة “علامة من السماء”… وأن الطفل الرضيع “آدم” هو المختار.
ذات ليلة، استيقظت ليانا على صـ،ـرخة أريج. فا.خـ،ـتفى “آدم”. اختطـ،ـفه الشامان الأكبر، وأعلن أنه سيقدمه “قربانًا للأرواح”.
صر,خت ليانا، لكنهم كبّلوها. نوح حاول الهـ،ـرب، فانهالوا عليه ضـ،ـربًا.
الغابة لا تعرف الرحمة.
في الفجر، تسللت ليانا إلى خيمة الشامان، ضـ،ـربت الحارس بقطعة خشب، وخطـ،ـفت أخاها.
ركضت وسط الظلام، وسط العواء، وسط الصر,خات.
الغابة كلها طـ،ـاردتهم. سقطو,ا، تعثر,وا، لكنهم لم يتوقفوا.
في أعلى التل، رأوا أخيرًا الطائرة الهليكوبتر تحلق… راكضة، حملت آدم فوق رأسها، لوّحت بقطعة قماش صنعتها من قميصها.
نزلت المروحية… ببطء… ثم توقفت.
نُقلوا إلى العاصمة. القصة ملأت الأخبار. الجميع تحدث عن “ليانا”، الطفلة التي تحدت الأمازون.
لكنها لم تتحدث.
في الليل، كانت تنظر للنافذة، وتهمس:
“الغابة ما خلّتنيش أمو,ت… بس كبرتني عشرين سنه.
“غابة لا تعرف الرحمة” لم تكن مجرد مكان. كانت اختبارًا. وكانت هي الناجية… لا لأنها الأقوى، بل لأنها رفضت أن تستسلم.